شعريةُ المكانِ في قصصِ الأطفالِ عندَ الأديبِ قيسِ عايد الحديثي

شعريةُ المكانِ في قصصِ الأطفالِ عندَ الأديبِ قيسِ عايد الحديثي

أ.د. محمد عويد الساير

قسم معلم الصفوف الأولى

 كلية التربية الأساسية - جامعة الأنبار.

بسم الله الرحمن الرحيم ،

المكان وحي الهام يروثُ المبدع ما يريد من آثار البوح للآخر للمتلّقي للقارىء في أي زمن ؛ لأنه ترجمة نفسية للذات التي تبدع النصَّ الأدبي ، أو الفلسفي ، أو المسرحي في التعبير والرؤى .

والمكان رسمٌ للمشاعر من جهة الاحساس به ، أو تداول مؤثراته داخل هذا الرسم عند الذات المبدعة المعطاة في النتاج الأدبي والاشهار لهذا النتاج مهما كان جنسه أو فنه ؛ إذ هو الاحساس بالغربة والنأي عن الآخرين وذكرياتهم، وهو الاغتراب في المكان الداخلي المعيش المقرّب إلى النفس دائماً، وقد يكون الثورة على المكان وذمّه وهجائه أحياناً؟!

والمكان متنوّع الدلالات والاستعمال في النصِّ الأدبي ، بدءاً كان التنوّع في النصِّ الشعري ومن ثمّ أصبح التنوّع في النصوص السردية الإبداعية من مثل : المقامة والمسرحية والقصة بأنواعها والرواية وحتى في قصائد النثر التي تغلبُ عليها سمة النثر وإن حُسبت شعراً !

المكان في قصص الأطفال يثيرُ مشاعر الطفل ، ولاسيما أن المبدع النوع من القصص يميلُ إلى استنطاق المكان كثيراً بأنواعه ، وما يوحي إليه كلّ نوعٍ من دلالات ومؤثرات داخل جسد القصة الواحدة . المكان الطبيعي هو المكان الأليف المحبب لدى الطفل دائماً ، وهو الذي يثير احاسيس كثيرة في فكره ومخيلته وعقله ؛ إذ هو الأكثر مشاهدة والأكثر فهماً لمدارك هذا الطفل ولاسيما في مراحل سنّه الأول. والمكان الطبيعي يقسمُ إلى أنواعٍ عدة من مثل : المكان الطبيعي الثابت كالأشجار والغابات والسهول والوديان والجبال والهضاب . والمكان الطبيعي المتحرّك كالحيوان والطيور والحشرات . والمكان الطبيعي الفلكي كالليل والشمس والقمر والنجوم والكواكب . والمكان الطبيعي الصناعي كالدواليب والنواعير – بتسمية أخرى – والمطحنة والفنار .

وهناك المكان المعادي الذي يكون قادراً على استثارة ما بقي من أحاسيس عند الطفل ، مما ورثها من مشاعر الاحساس بالمكان الطبيعي ومؤثراته .

ولا أريد الإطالة كثيراً في الأنواع والدلالات لكل نوعٍ من أنواع المكان فقد باتت معروفة ومتداولة ودُرست عند أغلب شعراء العربية على مرّ عصورهم ، ودُرست في ظواهر أشعارهم أيضاً ، من الوجهة النفسية والموضوعية والفنية والاجتماعية والسياسية والسيمائية ، إذ أتوجّه إلى قصص الأديب قيس عايد الحديثي الموجّهة للطفل محاوراً شعرية المكان في أدبه القصصي هذا في مجموعته القصصية : (براعم الخير )، التي نالت إعجاب الجميع من القراء من الراشدين والصغار كما علمت استبياناً مصغراً لها مع بعض الزملاء ؛ ولأنه أغلب أهدافها كانت قريبة إلى نفس الطفل وسلوكه ومستوعباته الإدراكية ذات التأثير الشخصي أو المجتمعي . وسأتناول هذه الشعرية للمكان من محورين تطبيقين على هاته القصص من وجهة العنوان العتبة الفرعية الداخلية ومن وجهة جسد القصة ومشاهدها السردية ولوحاتها التشكيلية التي رسمت المكان ودلّت على مشاعر الذات وهي ترسمه رسماً تعبيرياً هادفاً لأطفالنا الأعزّة .

1.     شعرية المكان وعتبة العنوان في المجموعة القصصية : (براعم الخير):

 المنصّة الفرعية الداخلية الأولى المعنونة بــــ :(أُمنية والمعزاة الصغيرة)، المكان في شعرية متكاملة في الشقِّ الثاني منه ، وهو المكان المتحرّك برسم صورة هذا الحيوان الأليف ، الذي يربّ  في البيوت والمزارع دائماً وهو قريب من نفس الطفل ومشاعره بألوانه وفوائده التي لا تحصى على بني البشر وكما يعرف بذلك الجميع .

المكان في شعرية متتابعة في الرسم والتعبير عند أديب الطفولة الأستاذ قيس عايد الحديثي في هذي القصة ، الشاعي القرية الصغيرة في أماكن ناحية بروانه وقصباتها الحالمة على نهر الفرات بالخير والسلام والصفاء والوداد دوماً ، من وحي ذاكرة المبدع الذي يريد نقلها للطفل في كل زمان ومكان. الحشائش والأشجار والنهر والحيوانات المختلفة كلها كانت في تشكيل جسد القصة الذي يدلُّ عليه العنوان العتبة الفرعية الداخلية لهذا الجسد ويشيرُ إليه إشارة واضحة مفصلة .

في العلاقة بين تأصيل العنوان والجسد ببناءٍ هيكلي يفصحُ عن مشاعر الذات في جبر كسر هذه المعزاة ، والسبق من قبل الطفلة أُمنية لعلاجها بروح البراءة والطفولة المحبة للحيوان والحياة ، كما هو معروف دائماً عند الأطفال الصغار ولاسيما عند البنات ، يقصُّ هذا الأديب عن الطفلة الصغيرة أُمنية قائلاً : (كان أكثر ما جذب انتباهها المعزاة الصغيرة وهي تتوثب وتقفزُ بسرعة بين الحشائش والتلة القريبة ، وحدث أن سقطت تلك المعزاة وتكسّرت أرجلها، عجزت عن القيام من مكانها . هرع الراعي إليها وهو يحملها إلى الكوخ القريب ليضمد ما تكسر منها ، لكن دون جدوى ).

ويعودُ القاص قيس عايد الحديثي في نهاية القصة التي تمحورت وأحداثاً جمة بعد كسر رجل هذه المعزاة ومساعدة أُمنية في علاجها وعودتها إلى اللعب والعمل ، إلى تأكيد عتبة العنوان من خلال شعرية المكان بتفاؤلٍ ومرحٍ بعدما هنأَ الجميع بهذا العلاج للمعزاة الصغيرة ، فها هو يقصُّ علينا مشهد الختام السردي عن هذي المعزاة قائلاً في مفارقة ضدية عبر استنطاق الألوان ودلالاتها : (أحبّها الجميع وتكاثر الماعز بعد شراء المزيد منه في بستانهم الفسيح حتى صار أهل القرية يسمونهم بأهل الماعز يبتاعون ويشترون منهم الحليب الطازج اللذيذ.

وهكذا يخرج من أكثر المخلوقات سواداً أكثر الحليب بياضاً...!).

المنصّة الفرعية الداخلية الأخرى المعنونة بــــــــ : (الغزالة نينا) ، الحقيقة الواضحة لا يبعد القاص قيس عايد الحديثي كثيراً عما أسلفت فيه القول في القصة التي سبقتها في استنطاق مظاهر الطبيعة المتحرّكة مع الحيوان الأليف باستثارة المكان الأليف ، وهذا المكان هو الذي يستدعي أيضاً عناصر السرد الأخرى وصولاً إلى الهدف المبتغى من القصة بكاملها عنواناً دالّاً وجسداً محكياً. ولنق مثل هذا القول والرأي عن منصّات قصصه الأخرى الفرعية الداخلية التي احتجنت هذه المجموعة القصصية ، من مثل :

-       أدهم والذبابة العنيدة .

-       الذئب والغراب .

-       الطائر الحر والراعي.

إذ إن أغلب هاته المنصّات كما يبينُ للقارىء فيها استنطاق لمظاهر المكان ودلالاته ، وأكثرها كان في استنطاق المكان الحيّ المتحرّك باستضافة الحيوانات والطيور والحشرات ، وهذه الاستضافة محببة إلى نفس الطفل ، قريبة من مشاعره ومداركه السلوكية ، ومن ثم قريبةً في البوح عن مشاعر ذات المبدع ، سهلة المنال في الوصول إلى الهدف الذي يريد إيصاله إلى الطفل بتلكم المشاعر والمدركات والسلوكيات .

2.     شعرية المكان وجسد القصة المحكي  في المجموعة القصصية : (براعم الخير):

جسد القصة المعنونة بــ : (أُمنية والمعزاة الصغيرة )، المكان يبينُ عن دلالات التفاؤل والمحبة ، ويشير أيضاً إلى الحركة والعمل والنماء للأرض ولتلكم الحيوانات التي ترعى على حشائشها وزروعها بأمانٍ وسلامٍ ومحبة من الراعي ومن أُمنية هذه وأُسرتها . في مشهدٍ منها يقول القاص قيس عايد الحديثي : ( ابتسمت الصغيرة أُمنية لما علمت إنها بمحاذاة النهر تحاكيه وتتغنى مع الأغنيات الحلوة الموروثة . نزلت مع أهلها إلى شواطئ قرية الشاعي حيث صغار الخراف والماعز وصغار الأبقار مع كبارها ينزلون إلى الشواطئ ويتغنون معه. والحيوانات كلها تأكل الحشائش وهي تتجول بينهم وتغني للربيع أيامه الخضراء الزاهية والملونة بأوراد الأشجار المثمرة الملونة).

المشهد السردي هنا كلّها المكان في المكان ، وهو المكان الطبيعي بنوعيه الثابت والمتحرّك ، وهو – المكان الطبيعي – الذي يستدعي باقي عناصر السرد ولا سيما الشخصيات والحدث استدعاءً طيباً مباركاً فيه للوصول إلى هدف القصة ومضمونها وهو حبُّ الحيوانات ومساعدتها ولا سيما وكسر رجل هذه المعزاة وجبرها وعلاجها ، والسرور بهذا الجبر والشفاء ، والسرور بالعودة للقفز والأكل واللعب ودرّ الحليب للجميع .

جسد القصة المعنونة بــ : (الغزال نينا) يرسمُ فيه القاصُّ قيس عايد الحديثي صورة مفارقة للاسم من خلال الدال والمدلول بين حقيقة الاسم (نيران) ، وبدلالة نينا لهذه الغزالة التي أهملها الجميع إلا الطفلة جميلة التي كانت قريبة منها ، وأكثر اعتناءً بها من الآخرين. المكان يتداعى في جسد القصة ويتنوّع بتنوع دلالاته كما يريدها القاص، وهذا التنوع شمل المكان الطبيعي والمكان الحضري معاً، وهذا التنوّع شمل استظهار مدلولات الألفة من خلف مثيرات العداء وتحويلها عبر السياق القصصي إلى مقومات بالجمال والمحبة فيما بعد ... يقصُّ علينا القاص قيس عايد الحديثي في مشهد سردي أفتتح به قصته الموجّهة للطفل هذه فيقولُ عن الطفلة جميلة :( فرحت جميلة بتلك البساتين الخضراء المباركة. كان لجميلة غزالة صغيرة جلبها الأب جسام من أحد الكهوف النائية في الصحراء. راحت تلك الغزالة نينا اسم الدلع لنيران تغني معها الأغاني الحلوة الجميلة . كان أخوة جميلة يغبطونها على تلك الغزالة الرشيقة المتوثبة الحسناء . حدث أن تمرّض زوج الفلاح جسام، فذهب بها زوجها إلى بغداد مصطحباً جميلة معهما لبضعة أيام).

جسد القصة المعنونة بــ : (دعي منابت الخير تنمو يا أم حبيب) تتمحور القصة والشخصيات بشكل مفعم بالحركة والحيوية ، وكذلك في استنطاق الحوار آليةً من آليات الحوار التعبير عن الهدف الذي يريد الأديب قيس عايد الحديثي إيصاله إلى الطفل، من الدعوة إلى الخير والصلاح وعمل المعروف للآخرين . المكان هنا شاخص من شواخص التعبير عن كنه مشاعر الذات ورسم العناصر الأخرى ولاسيما مع الشخصيات ، ومن الآليات ولاسيما مع الحوار .

أما جسد القصة المعنونة بــ : (أدهم والذبابة العنيدة)، تتمحور فالوصف يبرز آليةً من آليات القصِّ ، المكان هنا يرسم ملامح الشخوص والحدث إلى نهايته وهدفها ، وهناك عتبات للمكان أيضاً منها الطريق ، والباب وتداخلها على المكان الطبيعي بنوعيه، ولاسيما مع هذه الحشرة ووظيفتها ووصفها في القرآن الكريم ، وكتب الحيوان قديماً وحديثاً.

المكان هنا ينفتحُ على دلالات موسّعة تستدعي هذي الدلالات الألفة والعداء في أنٍ واحدٍ، كما إنها تثيرُ كوامن الشعور تجاه هذه الحشرة وما تفعله ببني البشر .

وأما جسد القصة المعنونة بــ : (الذئب والغراب) ، فهي مكان في مكان ، طبعاً ومن البداهة جداً أن يكون المكان الطبيعي المتحرّك بدلالات الحيوان والطير على حدٍّ سواء، وبدلالة العداء بالصفات واللون والصوت للذئب والغراب، إلا إن الغراب أراد في هذه القصة أن يزيح الصورة السوداء عن كاهله، وأن يساعد هذا الذئب الكاسر ، ولكنه استدرك على نفسه هذه المساعدة وكان له ما أراد إحساناً ، إذ إن هذا النوع من الحيوانات لا يؤلف أبداً.

المكان في باقي القصص الأخرى الموجّهة للطفل لا تخرج في جسدها ومبناها الحكائي عما قدّمت فيه القول من حضور بهي للمكان الطبيعي ، ومن تداعٍ بيّنٍ للحدث والشخوص بعد ذلكم الحضور البهي ، وفي أجساد هذه القصص مع ظهور خفي بعض الشيء لآليات السرد في الحوار والوصف ، استنطاق للتراث في مثل عنوان قصته (الراعي وجرّة الذهب) وجسدها ، وكذلك في عنوان قصته (الطائر الحرّ والراعي) وجسدها... أيضاً ، وهو توظيفٌ مثاليٌ لتنشيط ذاكرة الطفل وجعله في تتبع أثر المكان وما يدلُ عليه من ثقافة تراثية بدلالة هذه الاستعمالات ، فيقرأ أو يسألُ عنها وعمّا حدث فيها أو لماذا يستدلُّ بها القاص في مثل قصصه هذه، وهنا يوفق القاص في التعالق النصّي التراثي في العنوان والجسد ، ويذهبُ بالطفل بعيداً في استثارة أفكاره، وتحفيز مدراك الوعي عنده مهما كان صغيراً أو هشَّ الثقافة والفكر والاطلاع.